نعيمة سميح.. صوت الموهبة الذي أسس لجيل من الفنانين (بورتريه)

عندما تذكر الألحان المغربية الأصيلة، يستحضر القلب طيفا من الزمن الجميل، حيث يعبق الصوت بأريج الذاكرة، وتتراءى النغمات في سماء الطرب كنجوم تلألأت في الليل البعيد.
في هذا الكون الموسيقي الواسع، كان اسم نعيمة سميح واحدا من الأضواء التي لا تنطفئ، لا بل تظل متوهجة في قلب كل من استمع إلى أغانيها، تلك التي حملت بين طياتها جمال المغرب وعذوبته.
ورغم أن هذه الصوت الذهبي قد غادرنا اليوم عن عمر يناهز 72 عاما، فإن إرثها الفني الذي خلفته وراءها سيظل خالدا في وجدان كل من سمع صداها.
من حي الدار البيضاء إلى قلوب العرب
في عام 1954، شهدت مدينة الدار البيضاء ميلاد نعيمة سميح، الطفلة التي نشأت في قلب حي شعبي بسيط، في أحضان أسرة متواضعة، بعيدا عن الأضواء.
في تلك الزمانات، لم يكن للفن مكان في أحلامها الصغيرة، بل كان ذلك الحي الشعبي هو مسرح طفولتها، ومع ذلك، كانت موسيقى الحياة تنبض في قلبها، وكانت العيون الخجولة تحمل بداخلها رغبة خفية للانطلاق نحو عالم أرحب من الأصوات.
درب طويل تحت نور القمر
مرت سنوات قليلة قبل أن تجد نعيمة نفسها تائهة بين دروب الحياة، تركت مقاعد الدراسة في مرحلة مبكرة، وانطلقت نحو فنها الذي أحست أنه سيكون موطنها الأوحد. في سن السابعة عشرة، وعلى شاشة التلفزيون، كانت بداية حكايتها الفنية.
برنامج "مواهب"، الذي أضاءت فيه لأول مرة، كانت لحظة ولادة نجم جديد، نجم يحمل في صوته تفاصيل الطرب الأصيل بحس مرهف، وتلك اللحظة كانت بمثابة انفتاح الأبواب نحو عالم كانت قد طالما حلمت بالولوج إليه.
الطرب المغربي يلبس ثوبا جديدا
لم تكن نعيمة سميح مجرد مغنية عابرة في تاريخ الفن المغربي، بل كانت قوة فنية تجذب الأنظار إليها كالمغناطيس، تطوي المسافات بين الماضي والمستقبل، وتعيد للأغنية المغربية روحها المتجددة.
من خلال بحة صوتها المميزة، كان اللحن المغربي يُولد في كل نغمة، كان صوتها كالعطر يعبق في الأزقة المغربية ويصل إلى أفق الأوطان العربية.
بدأت رحلة التنقل بين ألحانها وكلمات شعرائها الكبار، حيث صنعت أسماء لامعة مثل عبد الله عصامي وعبد الوهاب الدكالي وأسماء عربية أخرى.
أغاني تملأ السماء وتعيد الزمان
ولدت أغانيها الخالدة من رحم الطرب المغربي الأصيل، ولكنها كانت تحمل في طياتها سحرًا يجعلها تتجاوز حدود الوطن، وتنشر عبيرها في القلوب. كلمات مثل "ياك أجرحي"، "جاري يا جاري"، و"غاب علي الهلال" أصبحت بمثابة توابل لا تفارق الذاكرة.
تلك الأغاني التي أُعيدت مرارا من قبل فناني العرب، رغم صعوبة اللهجة المغربية، كانت تبث في النفوس دفئا وحزنا وأملا، وتظل تعزف في الأماكن البعيدة كأنها ذكرى لا تموت.
مهرجانات، جوائز، ووسام الكفاءة الوطنية
ولم يكن الفن وحده من أعطاها التقدير، بل كانت الجوائز تهديه، كأنها أوسمة شرف على جبينها. كان مهرجان الدوحة للأغنية العربية شاهدا على تألقها، حيث توجت بمكانتها وسط نخبة الفنانين.
وجاء تكريم الملك محمد السادس، الذي منحها وسام الكفاءة الوطنية، تقديرا لمسارها الفني الذي أضاء سماء الفن المغربي، ليؤكد على مكانتها الفريدة في الفن العربي.
حياة هادئة في خلفية الأضواء
أما في حياتها الخاصة، فقد اختارت نعيمة سميح الهدوء والسكينة، حيث تزوجت في بداية السبعينات من البطل المغربي مصطفى بلقايد، وأنجبت منه ابنها الوحيد شمس الدين.
هذه الحياة البسيطة كانت تتناغم مع شخصيتها الهادئة والخجولة، بعيدا عن صخب الفن وجموحه، لكنها ظلت تنبض بحب الموسيقى، التي كانت لها شريانا حيويا.
رحيل نعيمة سميح هو خسارة للفن المغربي والعربي، لكن إرثها سيبقى محفورا في ذاكرة الأجيال. صوتها الذي اجتاز حدود الزمان والمكان سيظل يملأ الآفاق، وسنظل نردد أغانيها في كل لحظة، ونشعر بأننا مع تلك اللحظات الجميلة التي عشناها معها، نعود إلى حيث لا غياب.