عصر الرقمنة: الدولة والمجتمع

غشت 20, 2024 - 00:34
 0
.
عصر الرقمنة: الدولة والمجتمع
عصر الرقمنة: الدولة والمجتمع

أميمة الدسوقي باحثة في سلك الدكتوراه بجامعة عبد المالك السعدي كلية القانونية و الإقتصادية الإجتماعية بطنجة

أمست الدول العربية في الأمس القريب على حتمية التحول وفق ما فرضته القوى المسيطرة على الساحة الدولية، فطبعا ما نتج من تكنولوجيا فرض الانخراط والولوج للإنترنيت والشبكات الرقمية.

وفي السياق جاءت القمة العالمية لمجتمع المعلوميات بتونس في نوفمبر 2005، مشددة على ضرورة توفير الإمكانات الالكترونية، وفي اتجاه الجاهزية الشبكية أي القدرة على الاستيطان داخل الفضاء المعلوماتي بالأفراد والمؤسسات، ومنه لتوفير العتاد الالكتروني لتصبح الدول جاهزة شبكيا.

وبخصوص المغرب فقد حاول ترجمة التوجه عن طريق استراتيجيات، من قبيل المغرب الرقمي التي أتت بناء على توجهات رئيس الدولة 2008، والتي تم تنزيل تحديداتها سنة 2013، التحول الاجتماعي، الخدمات العمومية الموجهة للمتعاملين مع الإدارة.....

صحيح أن المغرب فتح أعينه على الاستثمار في عالم الاتصالات السلكية واللاسلكية باكرا، إذ دخل الهاتف الثابت نسبيا سنة 1906 مع رداءته ومحدودية انتشاره، لينتظر الهاتف المحمول مؤتمر الغات 1994 ثم الأنترنيت بعد عام من المؤتمر، ليشهد المغرب ثورة اتصال بعد خصخصة شركة اتصالات المغرب مطلع 2000.

فبدأت العلاقة بين الشبكات والمغاربة كمجتمع تتطور بفعل السنين، ففي تقرير للوكالة الوطنية لتقنين المواصلات سنة 2015، تقر أن ظاهرة الانخراط في المجتمع الرقمي تزيد توسعا، إلا أن فئة من المجتمع لا تزال خارج التعميم الإلكتروني والشبكي.

ومنه، انتقل المجتمع إلى مجتمع الشبكة، فتوسعت المعرفة، ففيما مضى كانت المعرفة موضوعا للتأمل الفلسفي من طرف صفوة المجتمع، في حين بتنا أمام مجتمع المعرفة بأقطاب تكنولوجية واقتصادية واجتماعية، طغى عامل المكان فاندثر مع البعد الرقمي وتلاه عامل الزمن، فأصبح المرتاد أمكنة وفضاءات لا حدود لها، وفي نفس الوقت بات الاقتصاد متجددا تتحكم فيه شبكات المؤسسات عابرة القارات اللامجنسة والفاقدة للهوية.

فكان على الدولة أن تتحول نحو الرقمنة في ظل طغيان الشبكة على المجتمع، فتبعا للمخططات والاستراتجيات جاءت الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي "المغرب الرقمي 2030 " والتي تروم ،بالأساس، تحديد الاحتياجات ذات الأولوية وضمان ملاءمتها لرهانات الرقمنة ومتطلباتها من خلال التركيز على المشاريع الرامية إلى الارتقاء بالإدارة الرقمية وتسريع الشمول الرقمي وتعزيز الاقتصاد الرقمي.

هذه التحولات العالمية برزت لنا مفهوم التدبير العمومي الجديد، والذي يعني كمفهوم مجموعة الوسائل السياسية والإدارية التي تروم لتحقيق أهداف معينة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ...

   إن التدبير العمومي يعني أيضا في مجمله الحرية في التصرف والمغامرة، زيادة على رصد الأهداف والسعي نحو الوصول إليها، ولا يعير أي اهتمام للمخاطر عكس الفعل الإداري الصادر عن الإدارة بالمعنى التقليدي لمفهوم التسيير، فبهذا المعنى الأخير هناك توخي للحذر سواء في الفعل أو القرار، وعدم الحرية في النظر إلى الأشياء بحيث يكون الرجوع إلى السلطة العليا في الهرم الإداري هي السمة الغالبة، مما يجعل قراراتها دائما مبنية على جهل ولا تتسم بالوضوح.

   بشكل مختصر، فالتدبير العمومي يقتضي عقلية مبادرة وجريئة، وليس فقط عقلية دفاعية، فهو يقتضي تكامل البنيات المؤسساتية من أجل تلبية رغبات المستفيدين وذلك بأقل تكلفة وفي احترام تام للتنظيمات المعمول بها قانونا أخذا بعين الاعتبار المبادئ الأساسية المبني عليها المرفق العام.

وعليه ستعمل في هذه الدراسة المصغرة على التطرق لشقين هامين، النموذج الجديد للإدارة، ثم الفضاء العمومي الرقمي، ولعل القارئ يستغرب من جمع هذين الحقلين الضخمين، إلا أن الفكرة في الأساس هي تكوين رؤية شاملة حول ما انعكس على الإدارة كجهاز في خدمة المجتمع، وأي تأثر طرأ على مجتمع باتت فيه الرقمنة جزء حياة.

ومنه، سيخضع المقال لتقسيم على النحو التالي:

✓ المحور الأول: النموذج الجديد للإدارة العمومية -العامة-

✓ المحور الثاني: الرقمنة بالمغرب: خطيئة النشأة

✓ المحور الثالث: الفضاء الرقمي العمومي: صراع الدولة والمجتمع

 

 

المحور الأول: النموذج الجديد للإدارة العمومية -العامة-

    من الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة، كانت العلاقة مع الاقتصاد واضحة، الأولى لا تتدخل في الميدان الاقتصادي والثانية أصبح لها المستطاع أن تتدخل، ولكن ظهور مفهوم الدولة الأقل تدخلا سيقلب مفهوم التدبير الكلاسيكي وسيساهم في تبلور فكر حديث، فكر في زمن الليبيرالية الجديدة بمفاهيم جديدة، هو إذن زمن التجديد.

   غاب في التدبير الكلاسيكي لغة الاقتصاد وهيمنة فيه لغة القانون فقط، وهو ما دفع بالليبراليين الجدد سلك طرق غير تلك المعهودة في قواعد القانون العام، فاعتبروا أن القاعدة القانونية التي لا تتكلم بلغة الكفاءة والجودة والفعالية عائق أمام التحول نحو إدارة جديدة، إدارة وفق التدبير العمومي الجديد.

   من جهة، الملاحظ أن أنصار الليبيرالية الجديدة لا يتفقون مع روح وفلسفة القانون الإداري، فهم يعتبرونه قانونا للدولة المتدخلة، ذلك لخصوصيته، لعل أهمها امتيازات السلطة العامة، وهو ما لا يتوافق مع الليبرالية الاقتصادية "Libéralisation de L’économie" التي تساوي بين المصلحتين العامة والخاصة.

  وعليه، أمام الآليات الجديد في التدبير، ستؤثر الليبيرالية الجديدة على الإدارة وآليات تدبيرها، كمثال على ذلك آلية التعاقد:

  لقد استطاع التعاقد أن يثبت قدميه داخل الإدارة، وهو ما دفع المتخصصين والباحثين في المجال الإداري، دراسة أسباب وتداعيات ما أطلقوا عليه بــ"la contractualisation de l’action administrative".

    وعليه، إذا كان القرار الإداري يجسد هيمنة الإدارة وطابعها السلطوي، فإن المقاربة التعاقدية تعتبر بمثابة التجسيد القانوني للمقاربة التعددية والتوافقية للعمل العمومي، وهي التي تعتبر مبدأ من مبادئ الحكامة الجيدة.

وفي خضم التحولات برز على الساحة طرح جديد "الإدارة في عصر المعلوميات"؛ إن التفكير في إعادة النظر، والتوجه نحو تقليص المرافق الإدارية، وهو ما باشرته الدول من خلال الإصلاحات الإدارية، وهو الأمر الذي فرضته التحولات الاقتصادية، وهنا ستختلف المفاهيم التي كانت سائدة في دولة الرعاية، وسنصبح أمام قواعد النجاعة والفعالية، وستهيمن لغة الأرقام والبيانات، ومن هنا سيظهر لنا ما يمكن تسميته بالبيروقراطية الجديدة، بيروقراطية لا يهمها الجانب العقلاني والشكلي وكذا القانوني، بل بيروقراطية تركز على الإنتاجية والفعالية وكذا الخدماتي داخل الجهاز الإداري.

   ومن أجل إصلاح الإدارة، على سبيل المثال شكل المغرب سنة 1981 لجنة وطنية للإصلاح الإداري، إذ فحصت المشاكل التي تواجه الإدارة، وأصدرت مجموعة من التوصيات إلا أن غالبيتها تمحورت حول المشاكل القانونية، كمراجعة القانون الأساسي للوظيفة العمومية وإصلاح الهياكل الإدارية.

  وجاء تقرير البنك الدولي لسنة1995 صادما لواقع الإدارة المغربية ودعا إلى إصلاحات مستعجلة، معتبرا أن طرق تسيير الإدارة جد عتيقة، فضلا عن روتينية العمل الإداري وجمود المساطر وغياب النزاهة والشفافية، دون أن يغفل المركزية المبالغ فيها.

   من المعلوم أن الإدارة الإلكترونية هي رغبة عظيمة تتفق مع روح و فلسفة ثورة التدبير العمومي الجديد القائم أساسا على تحسين الفعالية وتعزيز الشفافية، و التحول إلى الإدارة الإلكترونية كانت حتمية لابد منها، ففكرة التكامل و المشاركة و توظيف المعلومات أصبحت أحد محددات النجاح لأي مؤسسة، و فرصة للتقدم العلمي و التقني، و المطالبة المستمرة برفع جودة المخرجات و ضمان سلامة العمليات، كلها من الأمور التي دعت إلى التوجه نحو الإدارة الإلكترونية.

   إن ما خلفته الثورة المعلوماتية يمكن اعتباره تحول بالنسبة للإدارة، ورؤية جديد لها تحمل في طياتها تحسين الخدمات وتقريب المرفق من المواطن، فالتحول الرقمي يساعد في إدماج الملفات بطريقة معلوماتية، وتقديم شباك وحيد للمواطنين مما يسهل عملية التواصل بين الإدارة والمواطن، أما من الناحية الداخلية فالإدارة الإلكترونية ترفع من مستوى نجاعتها وفعاليتها.

   وإذا كانت فعالية سير المرفق العام أمرا حتميا يقره الجميع وبلوغه متوقف على مبادئ عديدة تمزج بين ما هو منها، و كذا التي استجدت بفعل تطور الحياة و مستلزمات العولمة، فإن الأمر لا يمكن أن يقف عند هذه الفعالية، و إنما وجب ضمانها كي يبلغ المرفق العام منى وجوده و يحقق رضى المواطن المرتفق بتلبية حاجاته بنقله إلى جودة الحياة.

   وبرنامج الفعالية الإنمائي التي جاءت به الأمم المتحدة، هو من أبرز معايير الحكامة الرشيدة، فهو يتوفر على العزم والقدرة على وضع المخططات والبرامج القادرة على تلبية حاجيات المواطنين وتطلعاتهم، منه نخلص إلى أن إدخال التكنولوجيا المعلوماتية ليس هدفا في حد ذاته بل وسيلة للوصول، الوصول إلى تدبير عمومي جديد.

   ومن الناحية العملية فالمعاملات الإلكترونية أكثر فعالية وأحسن جودة في إنجاز المعاملات، فهي توفر الوقت والجهد والمال والبحث، فمن خلال الإدارة الإلكترونية سيفتأ المواطن يدخل في الخط من أجل قضاء مصالحه عوض دخوله في الصف.

   ومكنت سرعة الإنجاز الإلكتروني بعض المرافق من الاستغناء عن كل ما هو تقليدي، أبرزها هذه المرافق، البريد على سبيل المثال.

   والرقمية فرضت على الهياكل الإدارية مواكبة الساحة الدولية وما تعرفه من متغيرات، وأصبح التفكير في هيكل إداري إلكتروني يسهل عملية التواصل داخليا وخارجيا، ويحسن من جودة الخدمات وكذا إعادة النظر في الهرم الإداري، فتبادل المعلومات هنا لا يتسم بالتعقيد بل هو سليم لا يحتاج إلى طول الوقت والإجراءات والمساطر المعقدة، كما ساهمت الإدارة الإلكترونية في تجاوز ما عرف بالمركزية والتركيز، وغيرت المساطر والإجراءات المتبعة، وذلك بتحويلها إلى عملية تقنية ومختزلة لا تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت.

إن الوصول إلى الإدارة الشفافة في البلدان المتقدمة لم يأت بالصدفة، بل هو ناتج تراكمات وتطورات عرفتها تلك البلدان، أما في المغرب على سبيل المثال لا الحصر فقد صدر قانون 31.13 بتاريخ 22 فبراير 2018 المتعلق بالحق في الحـصول على المعلومات " للمواطنات والمواطنين الحق في الحصول على المعلومات "، وهذا كله يصـب فـي تحقيـق الشفافية انطلاقا من الإدارات العمومية، كما تستطيع الإدارة العمومية في أية دولة أن تستعين بأدوات تكنولوجيا الإعلام والاتصال لتعزيز الشفافية والمساءلة والكفاءة في تقديم الخدمات العامة للمواطنين، كما تساعد الإدارة الإلكترونية المواطنين في الحصول على خدماتهم بفعالية، أي في أقل وقت ممكن وبأقل كلفة ومجهود بدلا من المعاناة مع النظام البيروقراطي الكلاسيكي.

وقد أدى استخدام تقنيات المعلومات في النظم الإدارية الحكومية إلى تحسين أدائها وتطوير جميع عناصرها من هياكل وأساليب وأفراد وتقنيات إدارية، وقد دفع ذلك إلى التفكير بالربط الإلكتروني بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لتقديم الخدمات التي يحتاجها المواطن في الوقت الذي يختاره والمكان الذي يناسبه محليا أو إقليميا أو دوليا، وسعي الدول إلى تبني الإدارة الإلكترونية ليس ترفا، بل من أجل تحسين خدماتها ورفع مستوى كفاءة أدائهـا بـهـدف خفض الوقت والجهد والعمل، وتحقيقا لتدبير جديد يقوم على الفعالية والجودة، وفي ذات الوقت على تعزيز العلاقة والترابط بينها وبين المواطن من خلال تنويع وسائل الربط الإلكتروني وإشاعة الشفافية في أداء الخدمات، وتتجلى أهمية تطبيق الإدارة الإلكترونية بوجه خاص والحكومة الإلكترونية بوجه عام في قدرة التطبيقات المرتبطة بهما، على تحقيق العديد من الفوائد.

وتعتبر الشفافية الإدارية فلسفة اجتماعية سامية هدفها دمقرطة عمل الإدارة داخليا وترك الحرية للأفراد من أجل التعرف على الحقيقة ومناقشتها، حيث تمكن من توفير المعلومات الدقيقة والواضحة في وقتها، مع إتاحة الفرصة للجميع للاطلاع عليها والاستفادة منها، ومن جهة أخرى هي إمكانية مهمة لتوسيع دائرة المشاركة والرقابة والمساءلة مـن أجـل تقليـل الـهـدر والتبذير ومحاصرة الفساد، إذ يجب أن تكون الأفعال والقرارات الإدارية المتخذة مفتوحة للفحص والتدقيق من طرف جهات أخرى، سواء وطنية كانت كالبرلمان والمجتمع المدني، أو دولية كالمؤسسات الدولية، فالشفافية إذن تعمل على تجاوز المفاهيم الإدارية القديمة التي تنطلق من قاعدة أن كل معلومة سرية ما لم يشر إليها بغير ذلك، وأن الملفات والوثائق الإدارية تعد مملوكة للإدارة ملكية خاصة، ومن ثم لا يجوز لأحد أن يطلع عليها. 

وقد أدت تلك المفاهيم إلى الزيادة في تدهور علاقة الإدارة مع المرتفقين، وفي إعاقة عمليات جذب الاستثمارات الأجنبية، فالإدارة التي تفتقر إلى الشفافية والوضوح، وتتستر على جزء هام من المعطيات تجعل المرتفق يشعر بالنفور والامتعاض، وتولد لديه شعورا بالخوف والقلق والرهبة والحذر، وذلك راجع لعدم وجود خط فاصل بين ما يجب أن ينشر أو يطلع عليه عند طلبه وبين ما يشكل سرا يحق للإدارة الحفاظ عليه وعدم إفشائه، ومن هنا تنامى الحديث عن دور تكنولوجيا الإدارة الالكترونية باعتبارها أداة فعالة في إقرار الشفافية الإدارية وتحقيق تداول حقيقي للمعلومات.

 كما تؤسس الإدارة الجديدة لعقلنة العمل الإداري، سواء تعلق الأمر بإعلان عن توظيف أو مباراة مهنية، أو صفقة عمومية أو مساطر إداريـة، تكـون الإدارة ملزمـة بعرض الشروط والمعايير والآجال اللازمة للتقدم بالترشح في الموضوع انطلاقا من موقعها الإلكتروني، وهو يضمن نشرا أوسع للمعلومات وشفافية أكبر لهذه العمليات، لأن تداول المعلومات والمعطيات من نطاق واسع، سيقلص حتما من هامش السلطة التنفيذية للمسؤول، واحتكاره للمعلومات، ويتيح للمواطن الحق في الإعلام والإخبار والاطلاع، وتتبع طرق عمل المرافق العمومية، كما تضمن له توضيحا دقيقا للإجراءات والمساطر التي يجب عليه التوفر عليها، وتتبعها لتقديم طلبه للاستفادة من خدمة معينة، وتمكنه من معرفة مجانية لحقوقه وواجباته، وهو ما يساعد على تكريس ثقافة الوضوح والشفافية، مما يزيد من ثقة المواطن في الإدارة.

ويمكن اختصار الشفافية الكاملة داخل المنظمات الإلكترونية كونها محصلة لوجود الرقابة الإلكترونية، التي تضمن المحاسبة الدورية على كل ما يقدم من خدمات، " إذ تعرف الشفافية بأنها الجسر الذي يربط بين المواطن و مؤسسات المجتمع المدني، من جهة، والسلطات المسؤولة عن مهام الخدمة العامة من جهة أخرى، فهي تتيح مشاركة المجتمع بأكمله في الرؤية ".

 

وعليه، فالإدارة في عصر العولمة يمكن القول أنها تعولمت إن صح التعبير، فهي جزء مهم من التدبير العمومي الجديد، إن لم نقل هي النقطة الفاصلة في التحول نحو تدبير جديد، إلى جانب تبني قواعد القانون الخاص بصبغة عمومية (خدمة المصلحة العامة بأسلوب جديد، يقوم على الفعالية والجودة).

 

المحور الثاني: الرقمنة بالمغرب: خطيئة النشأة

لعلنا نسرد أهم المحطات التي مر بها هذا "التحول" إن صح تعبير "التحول"، استراتيجية المغرب الإلكتروني 2005-2010، فاستراتيجية المغرب الرقمي 2009-2013، ثم المغرب الرقمي 2013، والمغرب الرقمي 2020، ومذكرة التوجهات العامة للتنمية الرقمية بالمغرب في أفق 2025، وكذا توصيات "النموذج التنموي (الجديد)" الداعية لــ"تسريع" التحول الرقمي و"تأهيل" البنيات التحتية الرقمية. 

وعلى مستوى الترسانة القانونية، نجد منذ تشريع قانون رقم 24.96 للبريد والمواصلات، والمغرب عمل على "تنمية" منظومته التشريعية والمؤسساتية حيث نجد:

✓ قانون رقم 03-77 المتعلق بالاتصال السمعي البصري؛

✓ قانون رقم 07-03 المتعلق بالإخلال بسير نظم المعالجة الآلية للمعطيات سنة 2003؛

✓ قانون رقم 53.05 متعلق ﺑﺎﻟﺗﺑﺎدل اﻹﻟﮐﺗروﻧﻲ ﻟﻟﻣﻌطﯾﺎت اﻟﻘﺎﻧوﻧية سنة 2007؛

✓ القانون رقم 08.09 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي 2009؛

✓ قانون رقم 31.08 يقضي بتحديد تدابير حماية المستهلك 2011؛

✓ قانون رقم 61.16 المحدث لوكالة التنمية الرقمية 2017؛

✓ منشور رئاسة النيابة العامة عدد 48 سنة 2018 حول حماية الحياة الخاصة للأفراد في ضل قانون 103-13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء؛

✓ مصادقة المغرب على اتفاقية بودابيست المتعلقة بالجريمة المعلوماتية بتاريخ 29 يونيو 2018 والبروتوكول الإضافي الثاني الملحق بهذه الإتفاقية حول محاربة الجريمة الإلكترونية2021؛

✓ قانون رقم 20-43 المتعلق بخدمات الثقة بشأن المعاملات الإلكترونية 2020؛

✓ قانون 05.20 يتعلق بالأمن السيبراني سنة 2020.

هي ترسانة تشريعية واكبتها إحداث عدة مؤسسات، نذكر منها:

✓ المجلس الوطني لتكنولوجيات الإعلام والاقتصاد الرقمي 2009

✓ اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي2009

✓ اللجنة الاستراتيجية لأمن نظم المعلومات لدى إدارة الدفاع الوطني 2011

✓ المديرية العامة لأمن نظم المعلومات سنة 2011

✓ الوكالة التنمية الرقمية 2017.

ثم إن حالة كورونا حتمت التعامل عن بعد مما أدى إلى الزيادة في وتيرة التبادل الإلكتروني على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وغيرها.

الملاحظ، على مستوى المجتمع تحول نحو مجتمع الشبكات أو المجتمع الافتراضي، وللأسف هذا التحول ترجم في المجتمع المغربي بالترداد والتردد على مواقع التواصل بشكل كبير، ثم وفرة العتاد الالكتروني، فترسانة قانونية متنوعة إن لم نقل تضخم على مستواها، أضف لذلك ميزانيات عريضة أنفقة على المجال.

في هذا المجال يقول الأستاذ يحيى اليحياوي أن الحديث والكتابة في هذا المجال والاستراتيجيات والسياسات العمومية لا تعدوا أن تكون سوى خطابا للاستهلاك وهدرا لأموال كبيرة في مشاريع حكومية تفقد معناها، فعن أي تحول يتحدثون؟ فالساحة تسجل غياب رؤية واضحة.

وعليه، بتنا أمام ما يمكن تسميته بخطيئة النشأة في المجال الرقمي، فالاشتغال بشكل منفرد ودون تنسيق رؤية واحدة وموحدة، يجعل من التحول شبه مستحيل، ولعل القائم أو القائمون على هذا التحول أن يستفيدو مما يصدره المجلس الأعلى للحسابات من تقارير تعري فشل تلك الاستراتيجيات، وتسقطنا أمام هدر المال والأموال العمومية، بالإضافة لهدر الزمن في المجال الإلكتروني.

هذا من جهة الإدارة، أما من جهة ضبط المجتمع، فالملاحظ أن الدولة تتراخى في التصدي إلى الأوبئة الرقمية، على رأسها موقع التيكتوك، وهو ما نهجته حكومة الأردن مثلا، ومنه لطرح مسألة الإثراء بواسطة وسائل التواصل عبر ممارسات تحطم القيم داخل المجتمع وتلاشي هويته، فبتنى قاب قوسين أو أدنى من مجتمع بلا عقيدة ولا هوية ولا وطنية.

حتى لا نحيد عن المجتمع فقد شكلت وسائل الاتصال الرقمي الحديثة، استثمارا واسعا في الفضاء العمومي للتعبير عن المطالب والحاجيات، بعدما عرف الفضاء انغلاقا في القرن السابق، وهو الأمر الملاحظ من خلال جملة من الوقائع من قبيل قمع انتفاضة الريف المطالبة ببعض الحقوق الاجتماعية، كذلك احتجاجات التلاميذ سنة 1965 التي قوبلت بإطلاق النار، ناهيك عن الاعتقالات والاختطافات القسرية في ما سمي بزمن الجمر والرصاص، فقد أرسى النظام ساعتها تغطرسه على الساحة وإغلاقه للفضاء العمومي، ليظل المواطن الهش مهمشا إلى حين تفاشي وسائل الاتصال الجديدة التي ساهمت في النهوض بالفضاء العمومي وتجديد النقاش ليمتد من العالم الافتراضي إلى الساحة الواقعية في بعض الأحيان كما هو الحال سنة 2011، وكذا حراك الريف الذي أوقدت فتيلته بالجريمة الوحشية ضد محسن فكري، وهو الحدث الذي صور، وتناقل عبر الشبكات، فمذا لو لم يصور ولم تكن هناك شبكات؟ وهنا أجيب، لكان أصبح رواية تلتقطها الأذان كما هي أحداث في زمن مضى. 

المحور الثالث: الفضاء الرقمي العمومي: صراع الدولة والمجتمع

بات المصطلح وصفا لبيئة افتراضية للأنترنيت ووسائل الاتصال الرقمية، إلا أن المفهوم في نظرنا يشمل مستويات أكبر وأشمل، هو صراع حول المعلومة، سيما أن الرقمنة أفرزت لما فضاءزعزع المفاهيم السائدة من زمن إلى حدود برون الرقمنة، أبرز هذه المفاهيم الدولة الوطنية التي أصبحت مخترقة بتيارات المعارف والبيانات والمعلومة، ثم مفهوم العمل الذي دخله مفاهيم جديدة من قبيل العمل عن بعد وتقريب الأزمنة والأماكن، ثم مفهوم رأس المال الذي عرفناه مع أدبيات الاقتصاد السياسي خضع لكثير من المدخلات الجديدة بل حتى حقل الاقتصاد السياسي بذاته أضحى في حاجة لفهمه وتحليله فهم الشبكات والفاعلون بها؛ مدخلاتها ومخرجاتها.

أصبحنا أمام مفاهيم جديدة: المجتمع الرقمي، الخيالي، الافتراضي، الاقتصاد اللامادي، الاقتصاد الشبكي... ثم برز مفهوم جديد على درجة عالية من الخطورة، الإعلام الرقمي أو الصحافة الإلكترونية، فأصبح من السهل الصعب إنتاج معلومة فتحويلها لمعرفة، وخلق سرديات معينة وترويجها، سهل من ناحية التنزيل صعب من نحية التمويل، فأضحت المعلومة غير محتكرة كما كانت في سابق عهدها في مجال السمعي البصري (احتكار المجال)، في المقابل بات المحتكر أمس يحاول إنتاج المعلومة اليوم، والمتلقي ليس متلقيا بل يشارك أو ينتج المعلومة، فانطلاقا من البحث العميق وصلنا لاستنتاج ندرجه في شكل ليسهل فهم:

ترويج السردية في الفضاء

خلق سردية على أنقاذ الخوف

 

استغلال معطى الخوف الذي أنتج سابقا

 

اللعب على اللاوعية في ترسيخ الردية

تعاطي الفئة غير المعنية ومشاركتها في توسيع السردية وإعطائها الشرعية ونشرها

المصدر: إعداد شخصي

 

وعليه: هناك عملية يصعب فهمها، وهي التفاعل الحاصل بين مالك المعلومة ومستقطب المعلومة، ومالك المعلومة هو مالك للمعرفة، وهنا نستحضر نماذجا سالفة غابرة في التاريخ، لطالما اصتدمنا في كتب التاريخ بمصطلح: علماء البلاط، وهو نمذوج يمكن الاستعانة به في فهم التجاذب الحاصل في الفضاء العمومي الرقمي، حيث سابقا كان الأقلية أو أقلية الأقلية الحاكمة تخشى من انتشار المعرفة (المعلومة)، وما ينتج عنها من وعي كبير وفهم دقيق واستعلاء في طلب الحقوق والالتزام بالواجبات داخل الفضاء، سواء كانت المعلومة صحيحة أو سردية متأزعمة، وهو ما عايشه جيل في سنوات متقدمة في منطقتنا ومناطق أخرى، مثل: بروز تيارات متجاذمة معارضة لأنظمة برزت بعد أن انتهى محتل دول من استنزاف خيراتها، من المعلومات التي كانت تراج على مستوى دولي نجد الكثير: الشيوعية – الرأسمالية – الإسلام السياسي – القومية العربية، وكل في محيطه كيف روج واستعمل المعطى، فإما انطلق من فكرة يؤمن بها ليصل لنتيجة محتملة، وإما لخدمة أجندة معية، أو لاسترزاق مادي أو معنوي.

هذا الأنموذج نفسه حاصل على مستوى الفضاء الرقمي، إذا الأصل هو إعادة توزيع وإنتاج وترويج واستهلاك المعلومة أو المعرفة، لأن احتكار المعلومة هو احتكار للمعنى والسياق زمانا ومكانا، وبه تقييد العقول وتوجيهها، لأن النموذج الذي صغناه أعلاه لا يعني تمرير معلومة، لا بل تمرير حقيقة متأزعمة إما أن تكون حقيقية أو غير ذلك، فهي عملية دقيقة لتمرير حقائق جاهزة تجعل من المتلقي المشارك أو الذي يمر لمرحلة الشرعنة والإنتاج لا يقبل التحليل الشخصي، فيبيت في حاجة دائمة لحقائق (معلومات) جاهزة من نفس المشرب الذي اشترب منه في الأول، وهو الذي يكون غالبا المسيطر والمهيمن على الفضاء، لأن أول ما مرر هو عدم البحث الدقيق والتمحيص في الفضاء الرقمي. هذا الطرح قديم لزمن غير بعيد، وهو ما يمكن تسميته بالصراع بين النخبة الحاكمة والمتلقي، مثال المطبعة حينما زعزعة توازن الكنيسة، في المغرب العربي صدور فتوى بتكفير المطابع، الهواتف، التلفاز، وهذا يترجم بشيء واحد وهو: الصراع على السلطة.

ومنه، نصل لفكرة محورية تتمثل في عدم إمكانية تقدير حجم الفضاء الرقمي، وهو الأمر الإجابي ما إذ استحضرنا يورغن هابرماس في مفهوم توسيع الفضاء العام، سيساعد المتحرك في انسيابية حركته داخل الفضاء الرقمي، وهذا الأمر يحتاج للكثير من العمل المتواصل، لأأن طبيعة الأشياء عمد فقدانها، فمن كان يملك السلطة والمال والمعرفة والقوة لن يظل حبيس زمانه، سيتحول مع المتغير كيفما كان ساعة إحساسه بتضاءل حيز سلطته، وهنا نعود لمثال: إدارة الأمن القومي الأمريكي كانت مصنفة وثائق أمن قومي 9 مليون سنة 2001، لينتقل العدد لـ16 مليون سنة 2004، وصنقت بعض المعلومات التي كانت متاحة صنفتها أمن قومي، وهو السلوك الذي يمكن تفسيره بالأمبراطورية الأمريكية.

إذا القراءة الدقيقة للفضاء الرقمي ومعماريته، وتفاعلاته الإبستمولوجية مع مختلف العلوم، سياسة اقتصاد اجتماع .....، يظهر بوضوح التوسع والامتداد السريع غير المرئي له، داخل نسيج من الأبنية المتشابكة المتحكم فيها بمستويات مختلفة.

خلاصة:

تظل المقاربات القانونية جافة مادام الباحث يستعملها بنوع من التقديس وإضفاء الشرعية عليها، فاعتبار القانون قاعدة مجردة من الأخطاء الشائعة، فدراسة القانون لا تنأى عن دراسة التحولات الاجتماعية، فإن كان القانون من خصائصه أنه قاعدة اجتماعية، فما قيمته إن لم يراعي التوازنات الاجتماعية، فالفكر الذي اعتبرناه تقديسا يتمثل في دراسة القانون كقاعدة، مهتما بالجانب الشكلي مستعينا بالمتون، مقيما النصوص قوام الذات، في حين ينظر للفكر القانوني كظاهرة من خلا توظيف علم الاجتماع، وهنا نقف في ورقتنا هذه على التحولات الاجتماعية التي تفرضها التكنولوجيا الرقمية في صياغة براديغمات قانونية.

إن التحولات الرقمية ساهمت في زعزعت الفلسفة القانونية الموروثة في المغرب، حيث فضت عليه فضاء جديدا يجب التعاطي معه، والعيب المنهجي هو أن رجال القانون طرحوا التأويلات والتفسيرات التقليدية لاحتواء الظاهرة الجديدة، فسقد صائغ القانون في كثلة من النصوص المشتتة التي بدورها أنتجت لنا ركاما من الانتقاضات والتفاوتات.

يلعب معطى الزمان والمكان أحد أهم العلاقات التي تربط الفضاء الرقمي بالقانون، وهو ما يعاني منه القانون، إذ يظل حبيس القواعد الكلاسيكية، ورهين بما هو مسطر مسشروعا وغير مشروع، وهو الأمر المتناقض مع المفهوم الجديد للزمان والمكان، حيث المنصات المزعمة تأول لطرح مشكلات لا تعترف بالحدود والضوابط.

يتعلق الأمر أساسا بعولمة حقيقة لمقتضيات قانونية، وهنا نقف أما ما يسمى بالنسق الرقمي والقانوني، حيث أن حركية الفضاء الرقمي تجعل من القانون وتدفعه للمراجعة باستمرار، كما أن الفاء الرقمي لا يتوافق في ضبطه مع الأسس الفلسفية العامة للقواعد القانونية، خصوصا الإرث الفرونكونوني، والذي يمتاز يتقديس القانون.

وهنا نستحضر معطى مهم وهو الإدراك الواسع لدى القانونيون، إذ أن معرفة القانون لم تعد كافية للتعاطي مع تقنين الرقمنة، خاصة في عصر شكات الاتصال والمعلوميات تشكل عصب الحياة الاجتماعية ونفس استمرارها، خاصة في المجال الاقتصادي.

أنتج الفضاء الرقمي صراعا تقنيا رافضا للنظرة التقليدية للقوانين، كما أعاد طرح النقاش حول مادية القوانين الكلاسيكية، كالمدني والتجاري والجنائي لصالح الزحف الإلكتروني، كما الشأن مع العقد الإلكتروني والشركات الافتراضية والإثبات الإلكتروني والجرائم الافتراضية والتوثيق الإلكتروني.

وهذا الصراع لم تسلم منه القوانين الكبرى من قبيل الدستوري والإداري، حيث ظهرت مفاهيم جديدة، كالحكومة المنفتحة والجماعات المنفتحة، الانتخاب الالكتروني، القرار الإلكتروني...

أصبح القانون مولودا جنينيا يرعى في رحم الفضاء الرقمي، وصولا للتخلي عن الوظائف التقليدية للقانون، حيث وظيفة كشف الواقع وضبطه عادة معدودة من الأمور التي لا تتوافق والفضاء الرقمي، هنا نقف أمام نظرية جيدة ولدها الفضاء الرقمي، هي أنه يساهم ويبدع في إنشاء القاعدة، وتتحول القاعدة القانونية من غاية اجتماعية إلى وسيلة عمل أو قاعدة تحكمعبر تقنين التقنية في حد ذاتها.

وعليه، جاءت المحوالات التشريعية القانونية في العالم محاولة تأطير الفضاء الرقمي، لكن الملاحظ على المستوى العملي هو عدم قدرة القانينيون على احتواء الفضاء الرقمي فلسفة تشريعية، وهو الأمر الذي يعود لأسباب لعل أبرزها:

- الدينامية المتجددة لمفاهيم الفضاء الرقمي

- تسارع الشبكات ومدودها

- قدرة الفضاء الرقمي التفوق على المعطى القانوني من خلال فهمه والتحايل عليه

فغالبا ما تكون أهمية عدم تطبيق القانون في المحيط التيكنولوجي قوية دون أن يلحق الضرر بالتيكنولوجيا واستعمالاتها، ولا رتب ذلك عقاب محدد لأن الخيار السياسي يحل محل القاعدة القانونية، والرقمنة خيار سياسي في نهاية المطاف.

انطلاقا مما سلف يمكن إدراج ملاحظة مهمة، وهو عملية الإقتباس القانوني التي تلجأ لها الدول "النامية"، فهي الوسيلة الأنجع بالنسبة لهذه الأنظمة لسد الفراغات القانونية في المجال الرقمي، وهو الأمر الذي يفهم من طرف صائغ التشريع بمنطق الأخذ والتنزيل دون مراعاة الخصوصية، وهو الأمر الذي يسقطنا في دوامة من الاقتباسات تتحول فيما بعد إلى تضخم على مستوى القوانين.