صياغة الفضة بتيزنيت .. تاريخ عريق ومستقبل واعد
حسن رشيدي
شكل معدن الفضة باقليم تيزنيت، منذ سنوات، أهم ركيزة من ركائز التنمية، ليس لأن الإقليم يتوفر على منجم لاستخراج هذا المعدن، بل لأن الساكنة تتشبت بالمجوهرات المصنوعة من هذا المعدن كغيرهم من امازيغ شمال افريقيا أيما تشبت، مما جعل الصاغة والحرفيين يتفنون و يبدعون في تصميم مجوهرات ذات أبعاد متعددة يتداخل فيها ما هو فني إبداعي بما هو عقائدي وليست مجرد إكسسوارات أو مؤثتات للزينة وإبراز المكانة الاجتماعية فقط، وللتعرف على هذه الصناعة عن كثب، انتقل فريق (تيليغراف ما) صوب مدينة تيزنيت للبحث والتقصي عن مكنونات هذه الحرفة التي ينظم لها مهرجان خاص يسمى "مهرجان تيميزار للفضة " صيف كل سنة، يتم خلاله تنظيم معرض وطني للمصوغات الفضية.
وصل فريقنا مدينة تيزنيت تمام الساعة الثامنة صباحا، تبدو الحركة التجارية هادئة وسط ساحة المشوار التاريخية بمدينة تيزنيت دخلنا لإحدى قيساريات المجوهرات على أصوات الصاغة والحرفيين وهم يفتحون أبواب دكاكينهم، آثار انتباهنا مدى جماليتها و تنظيمها، و تنوع المجوهرات المعروضة فيها، بين ماهو عصري يساير الموضة وما هو عريق يبهر كل الزوار، وفي حدود الساعة التاسعة كانت اغلب الدكاكين مفتوحة والحرفيين ينظفون و يرتبون مجوهراتهم، استفسرنا بعض الحرفيين عن أحوال سوق المجوهرات وكان جواب أغلبهم "الحمدلله"، كانت هذه بداية لحديثنا مع الحرفيين من أجل خلق جو للحوار والثقة للحصول على أكبر قدر من المعلومات حول هذه الحرفة التي اكتشفنا من خلال هذه الجولة انها حرفة تتوارثها الأسر أبا عن جد وتحتفظ بأسرارها و خباياها.
خرجنا من القيسارية الأولى والتي تحيلك مباشرة على قيساريات وأسواق أخرى تعرض أشكال وأنواع مختلفة من المجوهرات، وخلال هذه الجولة الصباحية حصلنا على معلومات وتصريحات مهمة رفض أصحابها إدراج أسمائهم في هذا التقرير الصحفي مما اضطرنا الى استعمال أسماء مستعارة احتراما لموقفهم، بعد سؤالنا لسي محمد عن خبايا الألوان المستعملة والأشكال المختلفة والمتنوعة للخلالة "تزرزيت" والأساور "نبايل" أخبرنا أنه بالأمس القريب كان يمكن معرفة المرأة من أي قبيلة انطلاقا مما تلبسه من حلي ولكن اليوم هذا التمايز يختفي شيئا فشيئا بسبب تطور الأذواق وتعدد منتجي هذه المجوهرات وجهل الأغلبية بالبعد الرمزي لأشكالها وزخارفها مما أفقدها وزنها الهوياتي لتنحصر قيمتها في القيمة السوقية التجارية، وأضاف أن هذا المعطى الذي أصبح يهدد مجوهرات العديد من المناطق أصبح اليوم نقطة قوة مجوهرات تيزنيت التي تتطور بشكل يحافظ على أصالتها ورمزيتها وهويتها، كما أخبرنا ان الأشكال والزخارف لها بعد عقائدي وأن الفضة حاضرة في حياة الأمازيغ منذ الولادة حيث يتم التصدق بوزن شعر الرضيع فضة في أول قصة لشعره ، كما أن جميع عادات وتقاليد العرس الأمازيغي لا تستقيم بدون حضور الفضة أما الذهب فشبه غائب في هذه الطقوس في الماضي القريب.
وأثناء تنقلنا بين المحلات صادفنا شبابا وشيبا استفسرناهم عن أصول هذه الحرفة وأخبرنا أحد الشباب الذي تبين انه ينجز بحث حول المجوهرات أن هذه الحرفة لها تاريخ مجيد وعكس ما يظن البعض أنها بدأت بدخول اليهود للمغرب لأن المجوهرات كانت حاضرة في حياة المغاربة والدال على ذلك اكتشاف اقدم مجوهرات في العالم بالمغرب ، كما أكد ان اليهود اشتغلوا في هذه الحرفة باقليم تيزنيت ونقلوا بعض تقنياتها للساكنة وإلى اليوم ما زالت بعض المجوهرات المصنوعة من قبلهم معروضة في أسواق المجوهرات بتيزنيت والنواحي، كما أشار إلى أن منطقة أنزي والتي تبعد عن تيزنيت بحوالي 45 كلم هي منبع هذه الحرفة واغلب المشتغلين في القطاع ينحدرون من هذه المنطقة، وتشكل تيزنيت ملتقى لحرفيي العديد من المناطق وهذا التلاقح جعل المجوهرات المنتجة بأنامل هؤلاء الصناع متنوعة ومتميزة، وتلقى إقبالا لدى المغاربة والأجانب.
هذا التلاقح الذي تبين لنا من خلال بعض الحلي المعروضة والذي شكل إلى جانب صنع أشكال جديدة تلبي كل الأذواق مع الحفاظ على أصالة المجوهرات وهويتها ودقة صنعها يدويا، مجالا خصبا مكن الصاغة بتيزنيت من إبداع قطع فنية وكنوز تحمل إرثا تاريخيا ورمزية لا يقدر على فهم دلالتها إلا من عشق الفضة وبياضها و سار على درب من استهوته الألوان والجواهر التي ترصع بها، و أمام هذا الكم الهائل من المحلات والحرفيين والصناع المشتغلين في القطاع بمدينة تيزنيت كان لابد من إعادة الاعتبار لهم ولهذه الحرفة، ومن هذا المنطلق صنفت تيزنيت مدينة للفضة كما حصل مجموعة من الحرفيين بهذه المدينة على شارة الجودة "تزرزيت" ، ويتم خلال صيف كل سنة تنظيم مهرجان للاحتفاء بالفضة يسمى مهرجان تيميزار للفضة، كما أشرنا سابقا، الذي يسهم إلى جانب كل ما ذكر في تنمية هذا القطاع الحيوي بالمدينة كما يسهم في خلق رواج 3ي مهم يشمل جميع المجالات، يجعل المدينة قبلة للزوار والسياح وطنيا و6ا، يتعرفون على تراثها المادي وغير المادي من خلال الحرف المنتشرة بالاقليم كصياغة الفضة و الصناعات الجلدية بالإضافة إلى اللباس الامازيغي و الخزف زيادة على فنون أمازيغية متنوعة تختلف من منطقة إلى أخرى داخل الإقليم.
بعد قضاء يوم كامل بهذه المدينة، غادرنا تيزنيت ومازالت أسئلة عديدة وكثيرة، حول هذه الحرفة، تؤرقنا وتجعل من العودة الى هذه المدينة أمرا لابد منه، وهو ما سيتحقق بمناسبة النسخة 12 لمهرجان تيميزار للفضة والذي سينظم أيام 24 إلى 29 يوليوز 2024 حسب بلاغ الجمعية المنظمة ، حيث سنحاول طرح اسئلتنا المحيرة من جديد من أجل سبر أغوار حرفة مازالت تخفي الكثير من الأسرار.